فصل: الآية رقم ‏(‏ 133 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏125‏)

{‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود‏}

قوله تعالى‏{‏وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا‏{‏ فيه مسألتان‏:‏

 الأولى‏:‏ قوله تعالى‏{‏جعلنا‏{‏ بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين، وقد تقدم‏.‏ ‏{‏البيت‏{‏ يعني الكعبة‏.‏ ‏{‏مثابة‏{‏ أي مرجعا، يقال‏:‏ ثاب يثوب مثابا ومثابة وثؤوبا وثوبانا‏.‏ فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه، أي يرجع إليه‏.‏ قال ورقة بن نوفل في الكعبة‏:‏

مثابا لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوامل

وقرأ الأعمش‏{‏مثابات‏{‏ على الجمع‏.‏ ويحتمل أن يكون من الثواب، أي يثابون هناك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يقضي أحد منه وطرأ، قال الشاعر‏:‏

جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر

والأصل مثوبة، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفا اتباعا لثاب يثوب، وانتصب على المفعول الثاني، ودخلت الهاء للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطرا، فهي كنسابة وعلامة، قاله الأخفش‏.‏ وقال غيره‏:‏ هي هاء تأنيث المصدر وليست للمبالغة‏.‏

فإن قيل‏:‏ ليس كل من جاءه يعود إليه، قيل‏:‏ ليس يختص بمن ورد عليه، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة، ولا يعدم قاصدا من الناس، والله تعالى اعلم‏.‏

 الثانية‏:‏ قوله تعالى‏{‏وأمنا‏{‏ استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى‏{‏ومن دخله كان آمنا ‏}‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ كأنه قال‏:‏ آمنوا من دخل البيت‏.‏ والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت، ويقتل خارج البيت‏.‏ وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا‏؟‏ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة‏.‏ وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به، ولو أتى حدا أقيد منه فيه، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ من لجأ إلى الحرم لا يقتل فيه ولا يتابع، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج‏.‏ فنحن نقتله بالسيف، وهو يقتله بالجوع والصد، فأي قتل أشد من هذا‏.‏ وفي قوله‏{‏وأمنا‏{‏ تأكيد للأمر باستقبال الكعبة، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة، ولا يحج إليه الناس، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه‏.‏ وسيأتي بيان هذا في ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏{‏ فيه ثلاث مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ قوله تعالى‏{‏واتخذوا‏{‏ قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم، وهو معطوف على ‏{‏جعلنا‏{‏ أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى‏.‏ وقيل هو معطوف على تقدير إذ، كأنه قال‏:‏ وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا، فعلى الأول الكلام جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان‏.‏ وقرأ جمهور القراء ‏{‏واتخذوا‏{‏ بكسر الخاء على جهة الأمر، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفا جملة على جملة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ يجوز أن يكون معطوفا على ‏{‏اذكروا نعمتي‏{‏ كأنه قال ذلك لليهود، أو على معنى إذ جعلنا البيت، لأن معناه اذكروا إذ جعلنا‏.‏ أو على معنى قوله‏{‏مثابة‏{‏ لأن معناه ثوبوا‏.‏

الثانية‏:‏ روى ابن عمر قال‏:‏ قال عمر‏:‏ وافقت ربي في ثلاث‏:‏ في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر‏.‏ خرجه مسلم وغيره‏.‏ وخرجه البخاري عن أنس قال‏:‏ قال عمر‏:‏ وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال‏:‏ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك قال قال عمر‏:‏ وافقت ربي في أربع، قلت يا رسول الله‏:‏ لو صليت خلف المقام‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏{‏ وقلت‏:‏ يا رسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر‏؟‏ فأنزل الله‏{‏وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، ونزلت هذه الآية‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ‏}‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏، فلما نزلت قلت أنا‏:‏ تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت‏{‏فتبارك الله أحسن الخالقين ‏}‏المؤمنون‏:‏ 14‏]‏، ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن، فنزلت الآية‏{‏عسى ربه إن طلقكن ‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى، فتكون موافقة عمر في خمس‏.‏

الثالثة‏:‏ قوله تعالى‏{‏من مقام‏{‏ المقام في اللغة‏:‏ موضع القدمين‏.‏ قال النحاس‏{‏مقام‏{‏ من قام يقوم، ويكون مصدرا واسما للموضع‏.‏ ومقام من أقام، فأما قول زهير‏:‏

وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل

فمعناه‏:‏ فيهم أهل مقامات‏.‏ واختلف في تعيين المقام على أقوال، أصحها - أنه الحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم‏.‏ وهذا قول جابر بن عبدالله وابن عباس وقتادة وغيرهم‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى‏{‏ فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏الإخلاص‏]‏ و‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏الكافرون‏]‏‏.‏ وهذا يدل على أن ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل، على ما يأتي‏.‏ وفي البخاري‏:‏ أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل يناولها إياه في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه‏.‏ قال أنس‏:‏ رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، حكاه القشيري‏.‏ وقال السدي‏:‏ المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه‏.‏ وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وعطاء‏:‏ الحج كله‏.‏ وعن عطاء‏:‏ عرفة ومزدلفة والجمار، وقاله الشعبي‏.‏ النخعي‏:‏ الحرم كله مقام إبراهيم، وقاله مجاهد‏.‏

قلت‏:‏ والصحيح في المقام القول الأول، حسب ما ثبت في الصحيح‏.‏ وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال‏:‏ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقل‏:‏ اللهم اغفر لفلان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما هذا‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام، فقال‏:‏ ‏(‏ارجع فقد غفر لصاحبك‏)‏‏.‏ قال أبو نعيم‏:‏ حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبدالرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري ابن سوقه، فذكره‏.‏ قال أبو نعيم‏:‏ كذا رواه عبدالرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس‏.‏ ومعنى ‏{‏مصلى‏{‏‏.‏ مدعى يدعى فيه، قال مجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ موضع صلاة يصلى عنده، قال قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ قبلة يقف الإمام عندها، قال الحسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود‏{‏ فيه ست مسائل‏:‏

الأول‏:‏ قوله تعالى‏{‏وعهدنا‏{‏ قيل‏:‏ معناه أمرنا‏.‏ وقيل‏:‏ أوحينا‏.‏ ‏{‏أن طهرا‏{‏ ‏{‏أن‏{‏ في موضع نصب على تقدير حذف الخافض‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ إنها بمعنى أي مفسرة، فلا موضع لها من الإعراب‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ تكون بمعنى القول‏.‏ و‏{‏طهرا‏{‏ قيل معناه‏:‏ من الأوثان، عن مجاهد والزهري‏.‏ وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير‏:‏ من الآفات والريب‏.‏ وقيل‏:‏ من الكفار‏.‏ وقال السدي‏:‏ ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، فيجئ مثل قوله‏{‏أسس على التقوى‏}‏التوبة‏:‏ 108‏]‏‏.‏ وقال يمان‏:‏ بخراه وخلقاه‏.‏ ‏{‏بيتي‏{‏ أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك‏.‏ وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص‏{‏بيتي‏{‏ بفتح الياء، والآخرون بإسكانها‏.‏

الثانية‏:‏ قوله تعالى‏{‏للطائفين‏{‏ ظاهره الذين يطفون به، وهو قول عطاء‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ معناه للغرباء الطارئين على مكة، وفيه بعد‏.‏ ‏{‏والعاكفين‏{‏ المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء‏.‏ وكذلك قوله‏{‏للطائفين‏{‏‏.‏ والعكوف في اللغة‏:‏ اللزوم والإقبال على الشيء، كما قال الشاعر‏:‏

عكف النبيط يلعبون الفنزجا

وقال مجاهد‏:‏ العاكفون المجاورون‏.‏ ابن عباس‏:‏ المصلون‏.‏ وقيل‏:‏ الجالسون بغير طواف والمعنى متقارب‏.‏ ‏{‏والركع السجود‏{‏ أي المصلون عند الكعبة‏.‏ وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى‏.‏ وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله‏.‏

الثالثة‏:‏ لما قال الله تعالى ‏{‏أن طهرا بيتي‏{‏ دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة‏.‏ وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها، أو لكونها أعظم حرمة، والأول أظهر، والله أعلم‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع‏}‏النور‏:‏ 36‏]‏ وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال‏:‏ ما هذا‏!‏ أتدري أين أنت‏!‏‏؟‏ وقال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله أوحى إلي يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتا من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏)‏‏.‏

الرابعة‏:‏ استدل الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على  جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت‏.‏ قال الشافعي رحمه الله‏:‏ إن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة، وكذلك من صلى على ظهرها، لأنه لم يستقبل منها شيئا‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يصلى فيه الفرض ولا السنن، ويصلى فيه التطوع، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ يعيد أبدا‏.‏ قلت‏:‏ وهو الصحيح، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال‏:‏ أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال‏:‏ ‏(‏هذه القبلة‏)‏ وهذا نص‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد ‏"‏روى البخاري عن ابن عمر ‏"‏قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب‏.‏ فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته‏:‏ هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال، نعم بين العمودين اليمانيين‏.‏‏"‏ وأخرجه مسلم‏"‏، وفيه قال‏:‏ جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة‏.‏ قلنا‏:‏ هذا يحتمل أن يكون صلى بمعنى دعا، كما قال أسامة، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد ‏"‏روى ابن المنذر وغيره عن أسامة ‏"‏قال‏:‏ رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورا في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور‏.‏ وخرجه أبو داود الطيالسي قال‏:‏ حدثنا ابن أبي ذئب عن عبدالرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صورا قال‏:‏ فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول‏:‏ ‏(‏قاتل الله قوما يصورون مالا يخلقون‏)‏‏.‏ فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة، فكان من أثبت أولى ممن نفى، وقد قال أسامة نفسه‏:‏ فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي‏.‏ وقد روى مجاهد عن عبدالله بن صفوان قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة‏؟‏ قال‏:‏ صلى ركعتين‏.‏

قلنا‏:‏ هذا محمول على النافلة، ولا نعلم خلافا بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة، وأما الفرض فلا، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى‏{‏فولوا وجوهكم شطره‏}‏البقرة‏:‏ 144‏]‏ على ما يأتي بيانه، وقوله صلى الله عليه وسلم لما خرج‏:‏ ‏(‏هذه القبلة‏)‏ فعينها كما عينها الله تعالى‏.‏ ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال‏:‏ ‏(‏هذه القبلة‏)‏‏.‏ وبهذا يصح الجمع بين الأحاديث، وهو أولى من إسقاط بعضها، فلا تعارض، والحمد لله‏.‏

 الخامسة‏:‏ واختلفوا أيضا في الصلاة على ظهرها، فقال الشافعي ما ذكرناه‏.‏ وقال مالك‏:‏ من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت‏.‏ وقد روي عن بعض أصحاب مالك‏:‏ يعيد أبدا‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه‏.‏

 السادسة‏:‏ واختلفوا أيضا أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به‏؟‏ فقال مالك‏:‏ الطواف لأهل الأمصار أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل وذكر عن ابن عباس وعطاء ومجاهد‏.‏ والجمهور على أن الصلاة أفضل‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا‏)‏‏.‏ وذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب السابق واللاحق عن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا فيكم رجال خشع وبهائم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا‏)‏‏.‏ لم يذكر فيه ‏{‏وشيوخ ركع‏{‏‏.‏ وفي حديث أبي ذر ‏(‏الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل‏)‏‏.‏ ‏"‏خرجه الآجري‏"‏‏.‏ والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور، والله تعالى اعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏126‏)‏

{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏}

قوله تعالى‏{‏وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا‏{‏ ‏{‏بلدا آمنا‏{‏ يعني مكة، فدعا لذريته وغيرهم بالأمن ورغد العيش‏.‏ فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله تعالى جبريل فاقتلع الطائف من الشام فطاف بها حول البيت أسبوعا، فسميت الطائف لذلك، ثم أنزلها تهامة، وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء ولا نبات، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثمرات، على ما يأتي بيانه في سورة ‏{‏إبراهيم‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

اختلف العلماء في مكة هل صارت حرما آمنا بسؤال إبراهيم أو كانت قبله كذلك على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها لم تزل حرما من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وسائر المثلات التي تحل بالبلاد، وجعل في النفوس المتمردة من تعظيمها والهيبة لها ما صار به أهلها متميزين بالأمن من غيرهم من أهل القرى‏.‏ ولقد جعل فيها سبحانه من العلامة العظيمة على توحيده ما شوهد من أمر الصيد فيها، فيجتمع فيها الكلب والصيد فلا يهيج الكلب الصيد ولا ينفر منه، حتى إذا خرجا من الحرم عدا الكلب عليه وعاد إلى النفور والهرب‏.‏

وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعلها آمنا من القحط والجدب والغارات، وأن يرزق أهله من الثمرات، لا على ما ظنه بعض الناس أنه المنع من سفك الدم في حق من لزمه القتل، فإن ذلك يبعد كونه مقصودا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى يقال‏:‏ طلب من الله أن يكون في شرعه تحريم قتل من التجأ إلى الحرم، هذا بعيد جدا‏.‏

الثاني‏:‏ أن مكة كانت حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام كسائر البلاد، وأن بدعوته صارت حرما آمنا كما صارت المدينة بتحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنا بعد أن كانت حلالا‏.‏

احتج أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ‏(‏إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها‏)‏ فقال العباس‏:‏ يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال‏:‏ ‏(‏إلا الإذخر‏)‏‏.‏ ونحوه حديث أبي شريح، أخرجهما مسلم وغيره‏.‏

وفي صحيح مسلم أيضا عن عبدالله بن زيد بن عاصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة‏)‏‏.‏ قال ابن عطية‏{‏ولا تعارض بين الحديثين، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان‏.‏ والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور، وكان القول الأول من النبي صلى الله عليه وسلم ثاني يوم الفتح إخبارا بتعظيم حرمة مكة على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى، وذكر إبراهيم عند تحريم المدينة مثالا لنفسه، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضا من قبل الله تعالى ومن نافذ قضائه وسابق علمه‏{‏‏.‏ وقال الطبري‏:‏ كانت مكة حراما فلم يتعبدالله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر‏{‏ تقدم معنى الرزق‏.‏ والثمرات جمع ثمرة، قد تقدم‏.‏ ‏{‏من آمن‏{‏ بدل من أهل، بدل البعض من الكل‏.‏ والإيمان‏:‏ التصديق، وقد تقدم‏.‏

‏{‏قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير‏{‏ ‏{‏قال ومن كفر‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏ومن كفر‏{‏ في موضع نصب، والتقدير وارزق من كفر، ويجوز أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط والخبر ‏{‏فأمتعه‏{‏ وهو الجواب‏.‏

واختلف هل هذا القول من الله تعالى أو من إبراهيم عليه السلام‏؟‏ فقال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما‏:‏ هو من الله تعالى، وقرؤوا ‏{‏فأمتعه‏{‏ بضم الهمزة وفتح الميم وتشديد التاء‏.‏ ‏{‏ثم أضطره‏{‏ بقطع الألف وضم الراء، وكذلك القراء السبعة خلا ابن عامر فإنه سكن الميم وخفف التاء‏.‏ وحكى أبو إسحاق الزجاج أن في قراءة أبي ‏{‏فنمتعه قليلا ثم نضطره‏{‏ بالنون‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة‏:‏ هذا القول من إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقرؤوا ‏{‏فأمتعه‏{‏ بفتح الهمزة وسكون الميم، ‏{‏ثم اضطره‏{‏ بوصل الألف وفتح الراء، فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين، وعليه فيكون الضمير في ‏{‏قال‏{‏ لإبراهيم، وأعيد ‏{‏قال‏{‏ لطول الكلام، أو لخروجه من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين‏.‏ والفاعل في ‏{‏قال‏{‏ على قراءة الجماعة اسم الله تعالى، واختاره النحاس، وجعل القراءة بفتح الهمزة وسكون الميم ووصل الألف شاذة، قال‏:‏ ونسق الكلام والتفسير جميعا يدلان على غيرها، أما نسق الكلام فإن الله تعالى خبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال‏{‏رب اجعل هذا بلدا آمنا‏{‏ ثم جاء بقوله عز وجل‏{‏وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر‏{‏ ولم يفصل بينه بقال، ثم قال بعد‏{‏قال ومن كفر‏{‏ فكان هذا جوابا من الله، ولم يقل بعد‏:‏ قال إبراهيم‏.‏ وأما التفسير فقد صح عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب‏.‏ وهذا لفظ ابن عباس‏:‏ دعا إبراهيم عليه السلام لمن آمن دون الناس خاصة، فأعلم الله عز وجل أنه يرزق من كفر كما يرزق من آمن، وأنه يمتعه قليلا ثم يضطره إلى عذاب النار‏.‏ قال أبو جعفر‏:‏ وقال الله عز وجل‏{‏كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك‏}‏الإسراء‏:‏ 20‏]‏ وقال جل ثناؤه‏{‏وأمم سنمتعهم‏}‏هود‏:‏ 48‏]‏‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ إنما علم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته كفارا فخص المؤمنين، لأن الله تعالى قال‏{‏لا ينال عهدي الظالمين‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏127‏)‏

{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم‏}

قوله تعالى‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل‏{‏ القواعد‏:‏ أساسه، في قول أبي عبيدة والفراء‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هي الجدر‏.‏ والمعروف أنها الأساس‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام‏)‏ فقال ابن الزبير‏:‏ هذه القواعد التي رفعها إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله إبراهيم عليها‏.‏ ابن عباس‏:‏ وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحته‏.‏ والقواعد واحدتها قاعدة‏.‏ والقواعد من النساء واحدها قاعد‏.‏

واختلف الناس فيمن بنى البيت أولا وأسسه، فقيل‏:‏ الملائكة‏.‏ روي عن جعفر بن محمد قال‏:‏ سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال‏:‏ إن الله عز وجل لما قال‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ قالت الملائكة‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك‏}‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فغضب عليهم، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم، وقال لهم‏:‏ ابنوا لي بيتا في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي، فأرضى عنه كما رضيت عنكم، فبنوا هذا البيت‏.‏

وذكر عبدالرزاق عن ابن جريج عن عطاء وابن المسيب وغيرهما أن الله عز وجل أوحى إلى آدم‏:‏ إذا هبطت ابن لي بيتا ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء‏.‏ قال عطاء‏:‏ فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل‏:‏ من حراء، ومن طور سينا، ومن لبنان، ومن الجودي، ومن طور زيتا، وكان ربضه من حراء‏.‏ قال الخليل‏:‏ والربض ههنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر، ومنه يقال لما حول المدينة‏:‏ ربض‏.‏ وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له‏:‏ يا آدم، اذهب فابن لي بيتا وطف به واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض، وقبضت له المفازة، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمرانا حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن أس ثابت على الأرض السابعة السفلى، وقذفت إليه الملائكة بالصخر، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلا، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا‏.‏ وقد روي في بعض الأخبار‏:‏ أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة، فضربت في موضع الكعبة ليسكن إليها ويطوف حولها، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت‏.‏ وهذا من طريق وهب بن منبه‏.‏ وفي رواية‏:‏ أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به والمؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق، ثم رفعه الله فصار في السماء، وهو الذي يدعى البيت المعمور‏.‏ روي هذا عن قتادة ذكره الحليمي في كتاب ‏{‏منهاج الدين‏{‏ له، وقال‏:‏ يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولا وعرضا وسمكا، ثم قيل له‏:‏ ابن بقدره، وتحرى أن يكون بحياله، فكان حياله موضع الكعبة، فبناها فيه‏.‏ وأما الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صلى الله عليه وسلم ما عاش ثم رفعت، فتتفق هذه الأخبار‏.‏ فهذا بناء آدم عليه السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام‏.‏ قال ابن جريج وقال ناس‏:‏ أرسل الله سحابة فيها رأس، فقال الرأس‏:‏ يا إبراهيم، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها، ثم قال الرأس‏:‏ إنه قد فعلت، فحفر فأبرز عن أساس ثابت في الأرض‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت، ويروح معها إذا راحت، حتى انتهت به إلى مكة، فقالت لإبراهيم‏:‏ ابن على موضعي الأساس، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن، فقال لابنه‏:‏ يا بني، ابغني حجرا أجعله علما للناس، فجاءه بحجر فلم يرضه، وقال‏:‏ ابغني غيره، فذهب يلتمس، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه، فقال‏:‏ يا أبة، من جاءك بهذا الحجر‏؟‏ فقال‏:‏ من لم يكلني إليك‏.‏ ابن عباس‏:‏ صالح أبو قبيس‏:‏ يا إبراهيم، يا خليل الرحمن، إن لك عندي وديعة فخذها، فإذا هو بحجر أبيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت‏:‏ أن ارفعا على تربيعي‏.‏ فهذا بناء إبراهيم عليه السلام‏.‏ وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت‏.‏

‏"‏روى الترمذي الحكيم‏"‏ حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبدالوهاب بن همام أخو عبدالرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال‏:‏ كانت الخيل وحشاً كسائر الوحش، فلما أذن الله لإبراهيم وإسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه‏:‏ ‏(‏إني معطيكما كنزا ادخرته لكما‏)‏ ثم أوحى إلى إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز‏.‏ فخرج إلى أجياد - وكانت وطنا - ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز، فألهمه، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين، وهي ميراث أبيكم إسماعيل، فإنما سمي الفرس عربيا لأن إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى‏.‏ و روى عبدالمنعم بن إدريس عن وهب بن منبه، قال‏:‏ أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام‏.‏ وأما بنيان قريش له فمشهور، وخبر الحية في ذلك مذكور، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا‏:‏ ربنا، لم ترع، أردنا تشريف بيتك وتزيينه، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل، فسمعوا خواتا من السماء - والخوات‏:‏ حفيف جناح الطير الضخم - فإذا هو بطائر أعظم من النسر، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين، فغرز مخاليبه في قفا الحية، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها، فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه، فترى عورته من صغر النمرة، فنودي‏:‏ يا محمد، خمر عورتك، فلم ير عريانا بعد‏.‏ وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة‏.‏ ذكره عبدالرزاق عن معمر عن عبدالله بن عثمان عن أبي الطفيل‏.‏ وذكر عن معمر عن الزهري‏:‏ حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن، أي القبائل تلي رفعه‏؟‏ حتى شجر بينهم، فقالوا‏:‏ تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة، فاصطلحوا على ذلك، فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يدر ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود، فإذا فيه‏{‏أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها، مبارك لأهلها في الماء واللبن‏{‏‏.‏ وعن أبي جعفر محمد بن علي قال‏:‏ كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش‏.‏ خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏ قلت‏:‏ فلم لم يدخلوه ‏[‏في البيت‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن قومك قصرت بهم النفقة‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ فما شأن بابه مرتفعا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض‏)‏‏.‏ وخرج عن عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال‏:‏ حدثتني خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة‏)‏‏.‏ وعن عروة عن ‏[‏أبيه عن‏]‏ عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لولا حداثة ‏[‏عهد‏]‏ قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا‏)‏‏.‏‏"‏ وفي البخاري قال هشام بن عروة‏"‏‏:‏ يعني بابا‏.‏‏"‏ وفي البخاري‏"‏ أيضا‏:‏ ‏(‏لجعلت لها خلقين‏)‏ يعني بابين، فهذا بناء قريش‏.‏ ثم لما غزا أهل الشام عبدالله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر، حتى أبدى أسا نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا، فلما زاد فيه استقصره، فزاد في طوله عشرة أذرع، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه، والآخر يخرج منه، كذا في صحيح مسلم، وألفاظ الحديث تختلف‏.‏ وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال‏:‏ لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس‏:‏ اهدموا، قال‏:‏ فأبوا أن يهدموا وخافوا أن ينزل عليهم العذاب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب‏.‏ قال‏:‏ وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترؤوا على ذلك، قال‏:‏ فهدموا‏.‏ فلما بناها جعل لها بابين‏:‏ بابا يدخلون منه، وبابا يخرجون منه، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع، وزاد في طولها تسعة أذرع‏.‏ قال مسلم في حديثه‏:‏ فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبدالملك بن مروان يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبدالملك‏:‏ إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه‏.‏ في رواية‏:‏ قال عبدالملك‏:‏ ما كنت أظن أبا خبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث بن عبدالله‏:‏ بلى، أنا سمعته منها، قال‏:‏ سمعتها تقول ماذا‏؟‏ قال‏:‏ قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع‏)‏‏.‏ في أخرى‏:‏ قال عبدالملك‏:‏ لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير‏.‏ فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الآثار‏.‏

وروي أن الرشيد ذكر لمالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة، وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير، فقال له مالك‏:‏ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس‏.‏ وذكر الواقدي‏:‏ حدثنا معمر عن همام بن نبه سمع أبا هريرة يقول،‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري، وهو تبع، وهو أول من كسا البيت، وهو تبع الآخر‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد، وأول من كساها الديباج الحجاج‏.‏

قال العلماء‏:‏ ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء، فإنه مهدى إليها، ولا ينقص منها شيء‏.‏ روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها‏.‏ وقال عطاء‏:‏ كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ربنا تقبل منا‏{‏ المعنى‏:‏ ويقولان ‏{‏ربنا‏{‏، فحذف‏.‏ وكذلك هي في قراءة أبي وعبدالله بن مسعود‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا‏{‏

وتفسير إسماعيل‏:‏ اسمع يا الله، لأن ‏{‏إيل‏{‏ بالسريانية هو الله، وقد تقدم‏.‏ فقيل‏:‏ إن إبراهيم لما دعا ربه قال‏:‏ اسمع يا إيل، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه‏.‏ ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنك أنت السميع العليم‏{‏ اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب ‏{‏الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏128‏)‏

{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم‏}

قوله تعالى‏{‏ربنا واجعلنا مسلمين لك‏{‏ أي صيرنا، و‏{‏مسلمين‏{‏ مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام‏.‏ والإسلام في هذا الموضع‏:‏ الإيمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ ففي هذا دليل لمن قال‏:‏ إن الإيمان والإسلام شيء واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى‏{‏فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين‏.‏ فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين‏}‏الذاريات‏:‏ 35 - 36‏]‏‏.‏ وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي ‏{‏مسلمين‏{‏ على الجمع‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن ذريتنا أمة مسلمة لك‏{‏ أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال‏:‏ إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله‏{‏ومن ذريتنا‏{‏ للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين‏.‏ وحكى الطبري‏:‏ أنه أراد بقوله ‏{‏ومن ذريتنا‏{‏ العرب خاصة‏.‏ قال السهيلي‏:‏ وذريتهما العرب، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال‏:‏ قيدر بن نبت بن إسماعيل‏.‏ أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم‏.‏ والأمة‏:‏ الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى‏{‏إن إبراهيم كان أمة قانتا لله‏}‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل‏:‏ ‏(‏يبعث أمة وحده‏)‏ لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله اعلم‏.‏ وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى‏{‏إنا وجدنا آبائنا على أمة‏}‏الزخرف‏:‏ 22‏]‏ أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى‏{‏إن هذه أمتكم أمة واحدة‏}‏الأنبياء‏:‏ 92‏]‏‏.‏ وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى ‏{‏وادكر بعد أمة‏}‏يوسف‏:‏ 45‏]‏ أي بعد حين وزمان‏.‏ ويقال‏:‏ هذه أمة زيد، أي أم زيد‏.‏ والأمة أيضا‏:‏ القامة، يقال‏:‏ فلان حسن الأمة، أي حسن القامة، قال‏:‏

وإن معاوية الأكرميـ ـن حسان الوجوه طوال الأمم

وقيل‏:‏ الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال‏:‏ رجل مأموم وأميم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأرنا مناسكنا‏{‏ ‏{‏أرنا‏{‏ من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل‏:‏ من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين ‏[‏كغير المعدى‏]‏؛ قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر‏:‏

أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

وقرأ عمر بن عبدالعزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي ‏{‏أرنا‏{‏ بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم‏.‏ وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء، والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد‏.‏ وأصله أرئنا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال‏:‏ ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر‏:‏

أرنا إداوة عبدالله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمر وطلب الخفة‏.‏ وعن شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين‏:‏ هذا، والآخر ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسأها‏}‏البقرة‏:‏ 106‏]‏ مهموزا‏.‏

قوله تعالى‏{‏مناسكنا‏{‏ يقال‏:‏ إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه‏:‏ نسك ثوبه إذا غسله‏.‏ وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال‏:‏ رجل ناسك إذا كان عابدا‏.‏

واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا، فقيل‏:‏ مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي‏.‏ وقال مجاهد وعطاء وابن جريج‏:‏ المناسك المذابح، أي مواضع الذبح‏.‏ وقيل‏:‏ جميع المتعبدات‏.‏ وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منْسَك ومنسِك‏.‏ والناسك‏:‏ العابد‏.‏ قال النحاس‏:‏ يقال نسك ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا‏:‏ منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل‏.‏ وعن زهير بن محمد قال‏:‏ لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال‏:‏ أي رب، قد فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له‏:‏ احصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم الثالث، ثم علا ثبيرا فقال‏:‏ يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال‏:‏ لبيك، اللهم لبيك، قال‏:‏ ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها‏.‏ وأول من أجابه أهل اليمن‏.‏ وعن أبي مجلز قال‏:‏ لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت - قال‏:‏ وأحسبه قال‏{‏والصفا والمروة - ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم‏:‏ ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان‏.‏ ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال‏:‏ ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان‏.‏ ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات وقال‏:‏ ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان‏.‏ ثم أتى به جمعا فقال‏:‏ ههنا يجمع الناس الصلوات‏.‏ ثم أتى به عرفات فقال‏:‏ عرفت‏؟‏ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات‏.‏ وروي أنه قال له‏:‏ عرَفْت، عرفتَ، عرفت‏؟‏ أي منى والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات‏.‏ وعن خصيف بن عبدالرحمن أن مجاهدا حدثه قال‏:‏ لما قال إبراهيم عليه السلام‏{‏وأرنا مناسكنا‏{‏ أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل‏:‏ كبر وارمه، فارتفع إبليس إلى الوسطى، فقال جبريل‏:‏ كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك‏.‏ ثم انطلق به إلى المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له‏:‏ هل عرفت ما أريتك‏؟‏ قال نعم، فسميت عرفات لذلك فيما قيل، قال‏:‏ فأذن في الناس بالحج، قال‏:‏ كيف أقول‏؟‏ قال قل‏:‏ يا أيها الناس، أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا‏:‏ لبيك، اللهم لبيك‏.‏ قال‏:‏ فمن أجاب يومئذ فهو حاج‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له‏:‏ طف به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين‏.‏ قال‏:‏ فقام جبريل فأراه المناسك كلها‏:‏ الصفا والمروة ومنى والمزدلفة‏.‏ قال‏:‏ فلما دخل منى وهبط من العقبة تمثل له إبليس‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏، فذكر نحو ما تقدم‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام‏.‏ وقال‏:‏ حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم‏.‏ و روى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر‏)‏‏.‏ وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود‏.‏ وقال عبدالله بن ضمرة السلولي‏:‏ ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاؤوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين‏.‏

قوله تعالى‏{‏وتب علينا‏{‏ اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام‏{‏وتب علينا‏{‏ وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة‏:‏ طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب‏.‏

قلت‏:‏ وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وتب على الظلمة منا‏.‏ وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام‏.‏ وتقدم القول في معنى قوله ‏{‏ إنك أنت التواب الرحيم ‏}‏ 2 @ 128 ‏.‏فأغنى عن إعادته ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏129‏)‏

{‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم‏}

قوله تعالى‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ‏}‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي قراءة أبي ‏{‏وابعث في آخرهم رسولا منهم‏{‏‏.‏ وقد روى خالد بن معدان‏:‏ أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له‏:‏ يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال‏:‏ ‏(‏نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى‏)‏‏.‏ و‏{‏رسولا‏{‏ أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ يشبه أن يكون أصله من قولهم‏:‏ ناقة مرسال ورسلة، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق‏.‏ ويقال للجماعة المهملة المرسلة‏:‏ رسل، وجمعه أرسال‏.‏ يقال‏:‏ جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويعلمهم الكتاب والحكمة‏}‏ ‏{‏الكتاب‏{‏ القرآن و‏{‏الحكمة‏{‏ المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقال ابن زيد‏.‏ وقال قتادة‏{‏الحكمة‏{‏ السنة وبيان الشرائع‏.‏ وقيل‏:‏ الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب‏.‏ ونسب التعليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه‏.‏ ‏{‏ويزكيهم‏{‏ أي يطهرهم من وضر الشرك، عن ابن جريج وغيره‏.‏ والزكاة‏:‏ التطهير، وقد تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ‏.‏ والكتاب معاني الألفاظ‏.‏ والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى اعلم‏.‏ ‏{‏والعزيز‏{‏ معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ معناه الذي لا يعجزه شيء، دليله‏{‏وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض‏}‏فاطر‏:‏ 44‏]‏‏.‏ الكسائي‏{‏العزيز‏{‏ الغالب، ومنه قوله تعالى‏{‏وعزني في الخطاب‏}‏ص‏:‏ 23‏]‏ وفي المثل‏{‏من عز بز‏{‏ أي من غلب سلب‏.‏ وقيل‏{‏العزيز‏{‏ الذي لا مثل له، بيانه ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب ‏{‏الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏{‏ وقد تقدم معنى ‏{‏الحكيم‏{‏ والحمد الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏130‏)‏

{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}

قوله تعالى‏{‏ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏{‏ ‏{‏من‏{‏ استفهام في موضع رفع بالابتداء، و‏{‏يرغب‏{‏ صلة ‏{‏من‏{‏‏.‏ ‏{‏إلا من سفه نفسه‏{‏ في موضع الخبر‏.‏ وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس‏.‏ والمعنى‏:‏ يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع‏.‏ ‏{‏إلا من سفه نفسه‏{‏ قال قتادة‏:‏ هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى‏.‏ قال الزجاج‏{‏سفه‏{‏ بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ المعنى أهلك نفسه‏.‏ وحكى ثعلب والمبرد أن ‏{‏سفه‏{‏ بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها‏.‏ وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة‏.‏ وقال الأخفش‏{‏سفه نفسه‏{‏ أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها‏.‏ وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي‏.‏ فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب‏.‏ وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت ‏{‏في‏{‏ فانتصب‏.‏ قال الأخفش‏:‏ ومثله ‏{‏عقدة النكاح‏}‏البقرة‏:‏ 235‏]‏، أي على عقدة النكاح‏.‏ وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم‏:‏ ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن‏.‏ الفراء‏:‏ هو تمييز‏.‏ قال ابن بحر‏:‏ معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الأطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا معنى قوله تعالى‏{‏وفي أنفسكم أفلا تبصرون‏}‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏‏.‏ أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى‏.‏ وسيأتي له مزيد بيان في سورة ‏{‏والذاريات‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد استدل بهذه الآية من قال‏:‏ إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا كقوله‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏الحج‏:‏ 78‏]‏، ‏{‏أن اتبع ملة إبراهيم‏}‏النحل‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وسيأتي بيانه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولقد اصطفيناه في الدنيا‏{‏ أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في ‏{‏اصطفيناه‏{‏ اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق‏.‏ واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الأصفى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏{‏ الصالح في الآخرة هو الفائز‏.‏ ثم قيل‏:‏ كيف جاز تقديم ‏{‏في الآخرة‏{‏ وهو داخل في الصلة، قال النحاس‏:‏ فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال‏:‏ منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة، ثم حذف‏.‏ وقيل‏{‏في الآخرة‏{‏ متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الآخرة‏.‏ والقول الثالث‏:‏ أن ‏{‏الصالحين‏{‏ ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال الرجل والغلام‏.‏

قلت‏:‏ وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير، مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين‏.‏ و روى حجاج بن حجاج - وهو حجاج الأسود، وهو أيضا حجاج الأحول المعروف بزق العسل - قال‏:‏ سمعت معاوية بن قرة يقول‏:‏ اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وارض عنا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏131‏)‏

{‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏}

العامل في ‏{‏إذ‏{‏ قوله‏{‏اصطفيناه‏{‏ أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم‏.‏ وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس‏.‏ قال ابن كيسان والكلبي‏:‏ أي أخلص دينك لله بالتوحيد‏.‏ وقيل‏:‏ اخضع واخشع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنما قال له ذلك حين خرج من السرب، على ما يأتي ذكره في ‏{‏الأنعام‏{‏‏.‏ والإسلام هنا على أتم وجوهه‏.‏ والإسلام في كلام العرب‏:‏ الخضوع والانقياد للمستسلم‏.‏ وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد لله‏.‏ وليس كل من أسلم آمن بالله، لأنه قد يتكلم فزعا من السيف، ولا يكون ذلك إيمانا، خلافا للقدرية والخوارج حيث قالوا‏:‏ إن الإسلام هو الإيمان، فكل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن، لقوله‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏ فدل على أن الإسلام هو الدين، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن‏.‏ ودليلنا قوله تعالى‏{‏قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا‏}‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ الآية‏.‏ فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا، وقال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له‏:‏ أعط فلانا فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو مسلم‏)‏ الحديث،‏"‏ خرجه مسلم‏"‏، فدل على أن الإيمان ليس الإسلام، فإن الإيمان باطن، والإسلام ظاهر، وهذا بين‏.‏ وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام، والإسلام ويراد به الإيمان، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته، فاعلمه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏132‏)‏

{‏ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}

قوله تعالى‏{‏ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب‏{‏ أي بالملة، وقيل‏:‏ بالكلمة التي هي قوله‏{‏أسلمت لرب العالمين‏{‏ وهو أصوب، لأنه أقرب مذكور، أي قولوا أسلمنا‏.‏ ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى، مثل كرمنا وأكرمنا، وقرئ بهما‏.‏ وفي مصحف عبدالله ‏{‏ووصى‏{‏، وفي مصحف عثمان ‏{‏وأوصى‏{‏ وهي قراءة أهل المدينة والشام‏.‏ الباقون ‏{‏ووصى‏{‏ وفيه معنى التكثير‏.‏ ‏{‏وإبراهيم‏{‏ رفع بفعله، ‏{‏ويعقوب‏{‏ عطف عليه، وقيل‏:‏ هو مقطوع مستأنف، والمعنى‏:‏ وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه‏.‏

وبنو إبراهيم‏:‏ إسماعيل، وأمه هاجر القبطية، وهو أكبر ولده، نقله إبراهيم إلى مكة وهو رضيع‏.‏ وقيل‏:‏ كان له سنتان، وقيل‏:‏ كان له أربع عشرة سنة، والأول أصح، على ما يأتي في سورة ‏{‏إبراهيم‏{‏ بيانه إن شاء الله تعالى‏:‏ وولد قبل أخيه إسحاق بأربع عشرة سنة، ومات وله مائة وسبع وثلاثون سنة‏.‏ وقيل‏:‏ مائة وثلاثون‏.‏ وكان سنه لما مات أبوه إبراهيم عليهما السلام تسعا وثمانين سنة، وهو الذبيح في قول‏.‏ وإسحاق أمه سارة، وهو الذبيح في قول آخر، وهو الأصح، على ما يأتي بيانه في سورة ‏{‏والصافات‏{‏ إن شاء الله‏.‏ ومن ولده الروم واليونان والأرمن ومن يجري مجراهم وبنو إسرائيل‏.‏ وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة، ومات بالأرض المقدسة ودفن عند أبيه إبراهيم الخليل عليهما السلام‏.‏ ثم لما توفيت سارة تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران ونشيق وشيوخ، ثم توفي عليه السلام‏.‏ وكان بين وفاته وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة، واليهود ينقصون من ذلك نحوا من أربعمائة سنة‏.‏ وسيأتي ذكر أولاد يعقوب في سورة ‏{‏يوسف‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقرأ عمرو بن فائد الأسواري وإسماعيل بن عبدالله المكي‏{‏ويعقوب‏{‏ بالنصب عطفا على ‏{‏بنيه‏{‏، فيكون يعقوب داخلا فيمن أوصى‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقرئ ‏{‏يعقوب‏{‏ بالنصب عطفا على ‏{‏بنيه‏{‏ وهو بعيد، لأن يعقوب لم يكن فيما بين أولاد إبراهيم لما وصاهم، ولم ينقل أن يعقوب أدرك جده إبراهيم، وإنما ولد بعد موت إبراهيم، وأن يعقوب أوصى بنيه أيضا كما فعل إبراهيم‏.‏ وسيأتي تسمية أولاد يعقوب إن شاء الله تعالى‏.‏

قال الكلبي‏:‏ لما دخل يعقوب إلى مصر رآهم يعبدون الأوثان والنيران والبقر، فجمع ولده وخاف عليهم وقال‏:‏ ما تعبدون من بعدي‏؟‏

ويقال‏:‏ إنما سمي يعقوب لأنه كان هو والعيص توأمين، فخرج من بطن أمه آخذا بعقب أخيه العيص‏.‏ وفي ذلك نظر، لأن هذا اشتقاق عربي، ويعقوب اسم أعجمي، وإن كان قد وافق العربية في التسمية به كذكر الخجل‏.‏ عاش عليه السلام مائة وسبعا وأربعين سنة ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة، ويدفن عند أبيه إسحاق، فحمله يوسف ودفنه عنده‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا بني‏{‏ معناه أن يا بني، وكذلك هو في قراءة أبي وابن مسعود والضحاك‏.‏ قال الفراء‏:‏ ألغيت أن لأن التوصية كالقول، وكل كلام يرجع إلى القول جاز فيه دخول أن وجاز فيه إلغاؤها‏.‏ قال‏:‏ وقول النحويين إنما أراد ‏{‏أن‏{‏ فألغيت ليس بشيء‏.‏ النحاس‏{‏يا بني‏{‏ نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها، لأنها لو سكنت لالتقى ساكنان، ومثله ‏{‏بمصرخي‏}‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله‏{‏ كسرت ‏{‏إن‏{‏ لأن أوصى وقال واحد‏.‏ وقيل‏:‏ على إضمار القول‏.‏ ‏{‏اصطفى‏{‏ اختار‏.‏ قال الراجز‏:‏

يا ابن ملوك ورثوا الأملاكا خلافة الله التي أعطاكا

لك اصطفاها ولها اصطفاكا

‏{‏لكم الدين‏{‏ أي الإسلام، والألف واللام في ‏{‏الدين‏{‏ للعهد، لأنهم قد كانوا عرفوه‏.‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏{‏ إيجاز بليغ‏.‏ والمعنى‏:‏ الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقه حتى، تموتوا‏.‏ فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو عليه، فقد توجه الخطاب من وقت الأمر دائبا لازما‏.‏ ‏{‏لا‏{‏ نهي ‏{‏تموتن‏{‏ في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين‏.‏ ‏{‏إلا وأنتم مسلمون‏{‏ ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون، وقيل مؤمنون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 133 ‏)‏

{‏أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون‏}

قوله تعالى‏{‏أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي‏}

‏{‏أم كنتم شهداء‏{‏ خبر كان، ولم يصرف لأن فيه ألف التأنيث، ودخلت لتأنيث الجماعة كما تدخل الهاء‏.‏ والخطاب لليهود والنصارى الذين ينسبون إلى إبراهيم ما لم يوص به بنيه، وأنهم على اليهودية والنصرانية، فرد الله عليهم قولهم وكذبهم، وقال لهم على جهة التوبيخ‏:‏ أشهدتم يعقوب وعلمتم بما أوصى فتدعون عن علم، أي لم تشهدوا، بل أنتم تفترون‏.‏ و‏{‏أم‏{‏ بمعنى بل، أي بل أشهد أسلافكم يعقوب‏.‏ والعامل في ‏{‏إذ‏{‏ الأولى معنى الشهادة، و‏{‏إذ‏{‏ الثانية بدل من الأولى‏.‏ و‏{‏شهداء‏{‏ جمع شاهد أي حاضر‏.‏ ومعنى ‏{‏حضر يعقوب الموت‏{‏ أي مقدماته وأسبابه، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئا‏.‏ وعبر عن المعبود ‏{‏بما‏{‏ ولم يقل من، لأنه أراد أن يختبرهم، ولو قال ‏{‏من‏{‏ لكان مقصوده أن ينظر من لهم الاهتداء منهم، وإنما أراد تجربتهم فقال ‏{‏ما‏{‏‏.‏ وأيضا فالمعبودات المتعارفة من دون الله جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة، فاستفهم عما يعبدون من هذه‏.‏ ومعنى ‏{‏من بعدي‏{‏ أي من بعد موتي‏.‏ وحكي أن يعقوب حين خير كما تخير الأنبياء اختار الموت وقال‏:‏ أمهلوني حتى أوصي بني وأهلي، فجمعهم وقال لهم هذا، فاهتدوا وقالوا‏{‏نعبد إلهك‏{‏ الآية‏.‏ فأروه ثبوتهم على الدين ومعرفتهم بالله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏{‏ ‏{‏إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏{‏ في موضع خفض على البدل، ولم تنصرف لأنها أعجمية‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وإن شئت صرفت ‏{‏إسحاق‏{‏ وجعلته من السحق، وصرفت ‏{‏يعقوب‏{‏ وجعلته من الطير‏.‏ وسمى الله كل واحد من العم والجد أبا، وبدأ بذكر الجد ثم إسماعيل العم لأنه أكبر من إسحاق‏.‏ و‏{‏إلها‏{‏ بدل من ‏{‏إلهك‏{‏ بدل النكرة من المعرفة، وكرره لفائدة الصفة بالوحدانية‏.‏ وقيل‏{‏إلها‏{‏ حال‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو قول حسن، لأن الغرض إثبات حال الوحدانية‏.‏ وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وأبو رجاء العطاردي ‏{‏وإله أبيك‏{‏ وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون أفرد وأراد إبراهيم وحده، وكره أن يجعل إسماعيل أبا لأنه عم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا لا يجب، لأن العرب تسمي العم أبا‏.‏ الثاني‏:‏ على مذهب سيبويه أن يكون ‏{‏أبيك‏{‏ جمع سلامة، حكى سيبويه أب وأبون وأبين، كما قال الشاعر‏:‏

فقلنا أسلموا إن أخوكم

وقال آخر‏:‏

فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا

قوله تعالى‏{‏ونحن له مسلمون‏{‏ ابتداء وخبر، ويحتمل أن يكون في موضع الحال والعامل ‏{‏نعبد‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏134‏)‏

‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏تلك أمة قد خلت‏{‏ ‏{‏تلك‏{‏ مبتدأ، و‏{‏أمة‏{‏ خبر، ‏{‏قد خلت‏{‏ نعت لأمة، وإن شئت كانت خبر المبتدأ، وتكون ‏{‏أمة‏{‏ بدلا من ‏{‏تلك‏{‏‏.‏ ‏{‏لها ما كسبت‏{‏ ‏{‏ما‏{‏ في موضع رفع بالابتداء أو بالصفة على قول الكوفيين‏.‏ ‏{‏ولكم ما كسبتم‏{‏ مثله، يريد من خير وشر‏.‏ وفي هذا دليل على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيرا فبفضله وإن كان شرا فبعدله، وهذا مذهب أهل السنة، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة‏.‏ فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا، وذلك التمكن هو مناط التكليف‏.‏ وقالت الجبرية بنفي اكتساب العبد، وإنه كالنبات الذي تصرفه الرياح‏.‏ وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وإن العبد يخلق أفعاله‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تسألون عما كانوا يعملون‏{‏ أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى، وسيأتي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏135‏)‏

{‏وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏}

قوله تعالى‏{‏وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا‏{‏ دعت كل فرقة إلى ما هي عليه، فرد الله تعالى ذلك عليهم فقال‏{‏بل ملة‏{‏ أي قل يا محمد‏:‏ بل نتبع ملة، فلهذا نصب الملة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى بل نهتدي بملة إبراهيم، فلما حذف حرف الجر صار منصوبا‏.‏ وقرأ الأعرج وابن أبي عبلة‏{‏بل ملة‏{‏ بالرفع، والتقدير بل الهدى ملة، أو ملتنا دين إبراهيم‏.‏ و‏{‏حنيفا‏{‏ مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وهو في موضع نصب على الحال، قاله الزجاج‏.‏ أي بل نتبع ملة إبراهيم في هذه الحالة‏.‏ وقال علي بن سليمان‏:‏ هو منصوب على أعني، والحال خطأ، لا يجوز جاءني غلام هند مسرعة‏.‏ وسمي إبراهيم حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام‏.‏ والحنف‏:‏ الميل، ومنه رجل حنفاء، ورجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها‏.‏ قالت أم الأحنف‏:‏

والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله

وقال الشاعر‏:‏

إذا حول الظل العشي رأيته حنيفا وفي قرن الضحى ينتصر

أي الحرباء تستقبل القبلة بالعشي، والمشرق بالغداة، وهو قبلة النصارى‏.‏ وقال قوم‏:‏ الحنف الاستقامة، فسمي دين إبراهيم حنيفا لاستقامته‏.‏ وسمي المعوج الرجلين أحنف تفاؤلا بالاستقامة، كما قيل للديغ سليم، وللمهلكة مفازة، في قول أكثرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏136‏)‏

{‏قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏}

قوله تعالى‏{‏قولوا آمنا بالله‏{‏ خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل‏)‏ الآية‏.‏ وقال محمد بن سيرين‏:‏ إذا قيل لك أنت مؤمن‏؟‏ فقل‏{‏آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏{‏ الآية‏.‏ وكره أكثر السلف أن يقول الرجل‏:‏ أنا مؤمن حقا، وسيأتي بيانه في ‏{‏الأنفال‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وسئل بعض المتقدمين عن رجل قيل له‏:‏ أتؤمن بفلان النبي، فسماه باسم لم يعرفه، فلو قال نعم، فلعله لم يكن نبيا، فقد شهد بالنبوة لغير نبي، ولو قال لا، فلعله نبي، فقد جحد نبيا من الأنبياء، فكيف يصنع‏؟‏ فقال‏:‏ ينبغي أن يقول‏:‏ إن كان نبيا فقد آمنت به‏.‏ والخطاب في هذه الآية لهذه الأمة، علمهم الإيمان‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جاء نفر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الأنبياء، فنزلت الآية‏.‏ فلما جاء ذكر عيسى قالوا‏:‏ لا نؤمن بعيسى ولا من آمن به‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم‏{‏ جمع إبراهيم براهيم، وإسماعيل سماعيل، قاله الخليل وسيبويه، وقال الكوفيون، وحكوا براهمة وسماعلة، وحكوا براهم وسماعل‏.‏ قال محمد بن يزيد‏:‏ هذا غلط، لأن الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول‏:‏ أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع‏.‏ وأجاز أحمد بن يحيى براه، كما يقال في التصغير بريه‏.‏ وجمع إسحاق أساحيق، وحكى الكوفيون أساحقة وأساحق، وكذا يعقوب ويعاقيب، ويعاقبة ويعاقب‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما إسرائيل فلا نعلم أحدا يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال أساريل، وحكى الكوفيون أسارلة وأسارل‏.‏ والباب في هذا كله أن يجمع مسلما فيقال‏:‏ إبراهيمون وإسحاقون ويعقوبون، والمسلم لا عمل فيه‏.‏

والأسباط‏:‏ ولد يعقوب عليه السلام، وهم اثنا عشر ولدا، ولد لكل واحد منهم أمة من الناس، واحدهم سبط‏.‏ والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل‏.‏ وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع، فهم جماعة متتابعون‏.‏ وقيل‏:‏ أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر، أي هم في الكثرة بمنزلة الشجر، الواحدة سبطة‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ ويبين لك هذا ما حدثنا به محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا أبو نجيد الدقاق قال حدثنا الأسود بن عامر قال حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة‏:‏ نوحا وشعيبا وهودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولم يكن أحد له اسمان إلا عيسى ويعقوب‏.‏ والسبط‏:‏ الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد‏.‏ وشعر سبط وسبط‏:‏ غير جعد‏.‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏{‏ قال الفراء‏:‏ أي لا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم كما فعلت اليهود والنصارى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏137‏)‏

{‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم‏}

قوله تعالى‏{‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا‏{‏ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ المعنى‏:‏ فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الإيمانين، وقيل‏:‏ إن الباء زائدة مؤكدة‏.‏ وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري‏{‏فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا‏{‏ وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، ‏{‏فمثل‏{‏ زائدة كما هي في قوله‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ أي ليس كهو شيء‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فصيروا مثل كعصف مأكول

و روى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال‏:‏ لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا‏:‏ بالذي آمنتم به‏.‏ تابعه علي بن نصر الجهضمي عن شعبة، ذكره البيهقي‏.‏ والمعنى‏:‏ أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق ‏{‏فسيكفيكهم الله‏{‏‏.‏ وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا‏:‏ ويحتمل أن تكون الكاف في قوله‏{‏ليس كمثله شيء‏{‏ زائدة‏.‏ قال‏:‏ والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نفي التشبيه عن الله عز وجل‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الباء بمعنى على، والمعنى‏:‏ فإن آمنوا على مثل إيمانكم‏.‏ وقيل‏{‏مثل‏{‏ على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله‏{‏وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب‏}‏الشورى‏:‏ 15‏]‏، وقوله‏{‏وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‏}‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن تولوا‏{‏ أي عن الإيمان ‏{‏فإنما هم في شقاق‏{‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ الشقاق المنازعة‏.‏ وقيل‏:‏ الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي‏.‏ وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

إلى كم تقتل العلماء قسرا وتفجر بالشقاق وبالنفاق

وقال آخر‏:‏

وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق

وقيل‏:‏ إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم‏{‏ أي فسيكفي الله رسوله عدوه‏.‏ فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير‏.‏ والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان‏.‏ ويجوز في غير القرآن‏:‏ فسيكفيك إياهم‏.‏ وهذا الحرف ‏{‏فسيكفيكهم الله‏{‏ هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم إياه بذلك‏.‏ و‏{‏السميع‏{‏ لقول كل قائل ‏{‏العليم‏{‏ بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم‏.‏ وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها ‏{‏فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم‏{‏، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له‏:‏ كيف حالك يا أبا دلامة‏؟‏ قال‏:‏ بشر يا أمير المؤمنين قال‏:‏ وكيف ذاك‏؟‏ قال‏:‏ ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في أسته، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته‏.‏